الأربعاء، 25 ديسمبر 2013

1435/2/22هـ

حافظ الأسرار

تنعكس حساسية المهنة وطبيعتها الأساسية في اسمها. فكلمة «secretary» إنجليزية، تم تطويعها أو ليّها عربياً إلى «سكرتير» أو «سكرتيرة» (رغم اكتساب المسمَّى صيغة أنثوية في النهاية)، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية «secernere» التي تعني «التمييز» أو «الفصل بين الأشياء» بغية الحفاظ عليها وعدم إفشائها، وهو ما يعني أنها سرية. وهكذا فإن الـ «secretarius» باللاتينية هو الـ «secretary» بالإنجليزية، أي السكرتير، وهي كلمة مشتقة من «secret»، أي السر. ما يكشف عن جوهر مهنة السكرتير بوصفه شخصاً موثوقاً، كتوماً، حافظاً للأسرار. وفي الزمن القديم، كان السكرتير هو شخص حيوي، مالك للمعلومات التي تتعلق بالمتنفذين ورجالات الدولة، من ملوك وأشراف وقادة جيش، وبالتالي، كانت وظيفته أقرب ما تكون في حقيقة الأمر إلى الوظائف النخبوية.

منذ عصر النهضة وحتى أواخر القرن التاسع عشر، اقتصرت أعمال السكرتارية على الرجال، حيث كانوا أقرب إلى مساعدين أو مستشارين لرجال الدولة والتجار، يتولون عنهم كتابة الرسائل بما عرف عنهم من ملكة لغوية وتعبيرية استثنائية، علاوة على القيام ببعض الأعمال المحاسبية والقانونية -التي تستلزم معرفة رياضية لا تخلو من تبحّر- ومتابعة تفاصيل «إدارية»، مقدمين المشورة والنصح، متمتِّعين بثقافة عامة، مطلعين على ما يُستجد من تطورات في الساحة الاقتصادية والسياسية لمساعدة أهل الحكم والمال في اتخاذ القرار. كما كانوا يجيدون عدة لغات من بينها اللاتينية، وهو ما أضفى على مهنة السكرتير -الذي يُشار له أيضاً بالكاتب- رقياً ورفعة مستوى، وجعله بمنأى عن المتطفلين على مهن ليست لهم. (يا لها من مفارقة أن تتقزم هذه المهنة في الوقت الراهن بحيث تخضع لتوصيف تنميطي «تحقيري» في بعض الأحيان، يجعل من السكرتير -خاصة إذ تضاف إلى الكلمة التاء المربوطة- مجرد وجه حسن وقامة هيفاء و«طبَّاعة» سريعة في أفضل الأحوال، بمواصفات كان يُعلن عنها -حتى عهد قريب- في الصحف تحت عنوان: «مطلوب سكرتيرة، حسنة المظهر، لا يزيد عمرها على 25 عاماً» -كما لو كان صاحب العمل يبحث عن عروس- مع إغفال الإشارة إلى أي مؤهلات أكاديمية أو مهنية فارقة).


مع اختراع الآلة الكاتبة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأت مهنة السكرتارية تستقطب عدداً متزايداً من النساء، مع تراجع دور «السكرتير» من حيث جوهره النخبوي تاريخياً، والتحول فعلياً من الكتابة والاجتراح وإسداء المشورة إلى دور ناسخ، يتلقى الأوامر وينفذها من دون إبداء كبير رأي. وهو دور -للأسف- بدت المرأة أكثر استعداداً من الرجل للقيام به امتداداً لدورها في البيت والمجتمع بوصفها بعيدة تاريخياً عن دائرة صنع القرار. 

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي اتخذت من ملايين الرجال في أوروبا وقوداً لها، باتت أعمال السكرتارية مقتصرة على النساء فقط. ومنذ ذلك التاريخ، انسحب الرجال من الوظيفة التي اكتسبت طابعاً «نسوياً»، كما انسحبت الوظيفة نفسها من توصيفها التاريخي المهم، لتتقزَّم وتتحجَّم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق